28 May الخطوط المقدسة
في عالمنا العربي يعتقد من ركب السيارة أو المركبة كما يطلق عليها في الخليج ( تسمى الموتر في بعض دول الخليج والعربية في مصر و العرباية في الشام والكرهبة في تونس والاطوموبيل في المغرب ) ، يعتقد من ركبها أنه ملك الأرض وما عليها من بلاد وعباد ، فالسيارة بالنسبة إلى جهله مصدر قوة ، وإلى ضعفه سلطة تخوله للقيام بما يريد ، خصوصاً مهاجمة عباد الله الراكبين منهم أو السيارة ( الماشيين )، وبالطبع يختلف مستوى البطش بإختلاف نوع السيارة التي يقودها ذلك الجاهل ، وموديلها ، وقيمتها ، ومهنة من يقودها وعمره ، وعمل أبيه ، وعشيرته التي تأويه .
كنت اتأمل الناس في عالمنا العربي وهم يعبرون الطريق فرأيت العجب العجاب ، خصوصاً في مصر الذين أمنحهم بكل جدارة جائزة نوبل والأوسكار وكل جوائز التميز والتفوق والإبتكار في طريقة عبور المشاة للطريق المخصص للسيارات ( لا أقصد الإهانة ولا السخرية إطلاقاً من أي بلد فهذا هو حال معظم عالمنا العربي مع احترامي لكل العالم العربي وهذا واقعنا الذي نعيشه ) ، تشعر وكأنك في فيلم كرتوني ، أو لعبة من ألعاب البلاي ستيشن ، فعندما يرى قائد العربية أن هناك من تسول له نفسه لعبور الطريق ، فإنه يزيد من سرعته لكي لا يعطي الفرصة لذلك المنحرف الذي يريد العبور ، ولو كان الشخص قد قطع مسافة نصف الطريق فإن قائد العربية سيسعى جاهداً لإيجاد منفذ للمرور من أي منطقة تسمح له بالمرور ، ولا يسعى حتى للتفكير في التوقف أو تخفيف السرعة فكيف لذلك المنحرف أن يعبر الطريق وسائق المركبة عليه أن يتوقف وينتظر ( هزلت ) ، ومن المعروف أن الناس عند عبورهم للطريق في مصر يعتمدون على مبدأ : لو إنت راجل دوسني ، بينما يعتمد السائق على مبدأ : لو إنت راجل عدي .
أذكر أنني في مرة من المرات شاهدت سيدة كانت تعبر الطريق ، والطريق مزدحمة بالسيارات وبالمارة ( حتى لا يقول أمثال من نتحدث عنهم أنها هي المخطئة ) اصطدمت بها سيارة فكسرت لها ساقها ، خرج السائق من سيارته وهو حانق ، عابس الوجه ، متجهم ، وأخذ يصرخ في السيدة الملقاة على الأرض وهي تصرخ وتتلوى من الألم ، وكان هذا كلامه حرفياً : هو إنتي عمية مبتشوفيش ، إنتى مش شايفة عربية جاية ، استموتي ياماما فيها ، اومي اتحركي عطلتينا جاتكوا البلاوي مليتو البلد ، يادي النهار الزفت عليكو وعلى اللي خلفوكو … تيييييييييييييييييت تييييييييييييييييييييييت ، إنتهت القصة بتجمع المارة ( واشتغلت التلفونات تصور الحدث ولا إحساس ) تم مساعدة السيدة لإبعادها عن الطريق وألقي بها على الرصيف ، ووضع المارة والجمهور كفوف أيديهم على كل مكان في جسد السائق الذي نسميه بالخطأ كائن بشري وهو يهدد ويتوعد إنتوا مش عارفين أنا مين … أنا حعملكم وأعملكم … أنا ….. ياولاد … يا …. ) .
في مشهد أخر رأيته وآراه تقريباً كل يوم . بعض المارة يريدون العبور ، فيقف لهم من يظن أنه يتصدق أو يتعطف أو يتكرم عليهم بوقوفه لهم ، يشير إليهم بيده للعبور ، وغالباً ما تكون الإشارة من تحت الضرس وكأنه يقول لهم : ( خلصونا ـ يلا ـ امشوا ـ هش ـ كش ـ اتفضلوا وطبعاً اتفضلوا بقرف وامتعاض ) وهؤلاء المساكين ممن يعبرون الطريق يشكرونه على تفضله وتكرمه ، وأدبه وسمو أخلاقه وذوقه العالي ، بأنه تنازل وتعطف وأنتظرهم لكي يعبروا الطريق ، وياويل ويا سواد ليل من تسول له نفسه بالتلكؤ أو السير على مهل عندها أقل ما يمكن أن يجده هو أن يسمع صوت الزمور أو البوق ( هناك شتائم متعارف عليها بالزمور يعرفها محترفي الشتيمة والردح ) وما خفي كان أعظم فهذا أمر بين السائق ونفسه الأمارة بالسوء .
مشهد آخر تعجبت له . سيدة تعبر الشارع وكلبها يسير بجانبها بسلام ، تقرأ أحدى الصحف وتسير وتتمخطر في وسط الشارع وسائقي السيارات يقفون بكل أدب واحترام وينتظرون عبورها دون كلل أو ملل ، لا أصوات زمور ، ولا من يشتم ، ولا من يتمتم بينه وبين نفسه بألفاظ غير لائقة ، بالطبع الصورة هذه ليست في عالمنا العربي ، إنها في بعض الدول المتقدمة حتى نبتعد عن التعميم .
كنت في جولة في أمريكا وشاهدت الناس يعبرون الطريق دون الإلتفات يمنة ويسرى كما كانوا يقولون لنا ويحشون بهذه العبارة عقولنا ( في الحجاز كانوا يقولون لنا : ياواد لما تقطع الشارع وايق يمين ، ووايق شمال ، لا تجي سيارة تهفك وتجيب خبرك ، بلا في شكلك ، وترجمة ما ذكر : لما تعدي الشارع بص يمين وبص شمال ، فاللهجة الحجازية صعبة ولا يعرفها إلا قلة ) ، حتى أن البعض منهم يقطعون الشارع وهم يقرأون صحيفة أو مجلة أو يلعبون في تلفوناتهم المحمولة أو يتشايتون في وسائل التفاصل الإجتماعي … لم أصدق عيني لأنها ترى فقط وقد تكون مخطئة فيما رأت ، وجدت طريق مشاة على طريق عام ( لا توجد فيه إشارة مرورية للمشاة ) مجرد خطوط بيضاء على الأرض ، قررت أن أعبر الطريق دون أن ألتفت وقد فعلت ( بصراحة نظرت بطرف عيني لأنني عربي ، والعرب يحبون النظر حتى لو من تحت لتحت ، وقد تعودت وتربيت على أن أنظر يميناً وشمالاً قبل عبورالطريق ) وجدت أن الجميع قد توقف اكراماً لي كإنسان فقط ، فالإنسان هو الأهم ، والآلة مجرد وسيلة وليست مصدر سلطة أو قوة أو جبروت .
لي كل الحق في عبور الطريق كما أريد وبالسرعة التي أريد ، أنا أنسان ولي مطلق الحرية في العبور ، ليس العبور فقط وإنما على جميع السيارات الوقوف بعيدة عني بما لا يقل عن متر واحد كحد أدني ، حتى لا تزعجني أو تضايقني أثناء عبوري ، فجناب حضرتي مهم لأنني إنسان ، وأعتبر في عرف من يفهمون أغلى مافي الوجود ، وليس من حق قائد المركبة أن يسير في طريقه وهو يرى رغبتي في المرور حتى قبل أن أصل لتلك الخطوط التي تقول أن ذلك طريق للمشاة فأحترم من يعبرون ، أذكر في بعض المرات أنني أردت العبور وكانت بعض السيارات تقف على تلك الخطوط البيضاء فإذا بقائديها يرجعون بمركباتهم للخلف مع إعتذارهم على هذا الخطأ غير المقصود الذي بدأ منهم … ليس فقط من حقي كإنسان فالحيوان أيضاً له قيمته وله الأفضلية في العبور …
كم هي جميلة تلك الحقوق وكم هي ( الخطوط المقدسة ) التي أفتقدناها في عالمنا العربي ، وفي مجتمع إسلامي أوصانا فيه رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم بضرورة إماطة الأذى عن الطريق ، واحترام الجميع للجميع ، والصبر ، وتفضيل الغير ، والحلم ، والإبتسامة ، والرحمة ، والإحسان ، والإتقان ، والنظافة ، والإيثار و ……. هذا هو حالنا (عبادات وسوء أخلاق وعادات) وذلك هو حالهم ( لا عبادات وحسن أخلاق وعادات ) ولا تعميم أيضاً في كلامنا فبذرة الخير موجودة في كل المجتمعات .
صورة أحببت أن أنقلها لعلنا نفكر أو نتساءل : إلى متى سنظل في هذا الهوان ؟ وإلى متى هي مهدورة لدينا قيمة الإنسان ؟ ولماذا عادة ما نخضع لمن أمتلك المادة ؟ ولماذا عندما نسيطر ونفتري في خلق ربنا نشعر بتلك النشوة وتلك السعادة ؟ وإلى متى نضيع حقوقنا بأيدينا ونظل عنها غافلين ؟ وإلى متى نتجنب الآداب ولأبسط حقوق الإنسان مهملين ؟ نحن بشر وقد فضلنا الله بأن جعلنا مسلمين … هل تعاملنا في كل امورنا بما يمليه علينا ديننا ؟ أم أننا فقط في قائمة المسلمين مسجلين .
الخطوط هي رمز من الرموز وكم هي الرموز التي نحتاج إليها ونحتاج لإعادة التفكير فيها ، ختاماً أحب أن أشيد بدور كل من يحاول أن يحفظ الحقوق ويطبقها دون أن تكون مين وإبن مين ويكتفي بأنك من البنى آدمين … هذا هو المطلوب لبناء الأوطان … كرامة الإنسان ، فبالكرامة نحيا ونبدع وبدونها ( ) قل ما شئت … الله المستعان
No Comments