KAMEL BADAWI | عندما ينادي عليك الله..
4388
post-template-default,single,single-post,postid-4388,single-format-standard,ajax_fade,page_not_loaded,,side_area_uncovered_from_content,qode-theme-ver-10.0,wpb-js-composer js-comp-ver-4.12.1,vc_responsive

عندما ينادي عليك الله..

عندما ينادي عليك الله..

كنت أقود سيارتي في طريق سفر بين مدينتين ، مسافة تبلغ بمقايسنا الأرضية أكثر من 900 كيلو متر ، أقطع طريقي وألتهمه إلتهاماً كمعظم المسافرين الآخرين، أقود سيارتي ماراً بها عبر المدن والقرى ، لا أرى أحداً إلا نفسي ولا أعيش إلا لذاتي وكياني ، أشغل مكيف الهواء أو أطفئه حسب رغبتي ، أكل وأشرب ما أريد بكيفي ومزاجي ، أستمع للمذياع وأرفع الصوت وكأنني في حرب مع الصمت الذي أصبح يقتل سائر البشر فكل شيء في حياتنا أصبح ضوضاء وكل شيء بات صخب ، قطعت مئات الكيلو مترات ولم ألتفت إلا لي وكأن هذا الكون أنا فقط ، بالطبع كنت أرى المئات من البشر في كل مكان وعلى جانبي الطريق ولكنهم بالنسبة لي ولغيري مجرد صورة نشاهدها دون أن نفكر أو نتفكر أو نذكرهم أو نتذكر ، مجرد لحظة يختفون بعدها فننساهم ولا يبقى منهم شيء ، وصلت إلى وجهتي لأكمل ما تكبدت عناء السفر من أجله ، لم أكن أعلم أن الله يناديني فلم أسمع صوتاً ولم أرى آية ولكنه كان يناديني دون أن أعلم ، كان يوجهني لأتصرف بطريقة معينة دون أن أعي أو أدرك أو أفهم ، بعد وصولي إلى وجهتي وإنجازي لعملي بفضله وكرمه ، قررت أن أعود إلى مدينتي التي بدأت منها رحلتي ، مسافة بعيدة والرحلة شاقة ونفسي بتلك الرحلة لن تكون مرتاحة أو سعيدة ، قررت أن أبدأ الرحلة فجر اليوم التالي ولم يكن هذا قراري أو من تفكيري أو وحي خيالي ، فقد قدره الله لي لحكمة لم تصلني بعد ، قبل أن أنام لأستعد للسفر تاقت نفسي للحم مشوي أو ما يسمونه الكباب مع إنني لا أكل في الليل شيئاً لكبر سني وحفاظاً على صحتي ولياقتي ، تاقت نفسي إليه بشدة ، ولم أدري أنها لم تكن نفسي التي تاقت ، كنت أقول لنفسي أي هبل ذاك !!! أتشتهي شيئاً ولن تأكله من فورك ؟ ستشتريه وتأخذه معك في الطريق ؟ بالتأكيد سيبرد ولن يكون شهياً نهائياً ، أي تيه هذا ؟ وأي مهزلة تعيشها ؟ كنت أتحاور أنا ونفسي حول هذا الموضوع وبعد رفض مني ورضى من نفسي وغضب مني وإصرار وإلحاح منها قررت أن أشتري ما تاقت نفسي إليه ، كانت الساعة عند صدور القرار الساعة الثانية عشر منتصف الليل ، قررت أنني لن آكل منه شيئاً إلا في اليوم التالي مهما كلفني الأمر ومهما كانت نفسي ضعيفة وأمارة بالسوء ، الغريب في الأمر أنني كنت مدعواً في منتصف نهار اليوم ذاته على حفل غداء أقيم على شرفي وكان فيه من أصناف وأنواع المشويات التي أشتهيتها مساءً الشيء الكثير وشيء وشويات من ما لذ وطاب من المقبلات والسلطات ، ولكنني وبدون سبب واضح أو معلوم لم أقترب منها أو أتذوقها نهائياً مع إلحاح وإصرار الداعيين لي بأن أكل ولو القليل . لماذا لم أكل!!! لم أكن أعلم ؟ لم أضع هذا الأمر في عقلي ولا بالي لأنني بكل بساطة لم أكن أعلم أن الله كان يناديني وكان يوجهني لشيء يريده سيرضيه ويرضيني …

فتحت عيني بعد نومي لعدة ساعات لأعود إلى الحياة من موتة صغرى ، فإذا بنا قد أصبحنا بنعمة الله ، جهزت نفسي وقفزت إلى داخل سيارتي وبدأت رحلة العودة ، طريق طويل ممل عدت فيه إلى ذاتي كما بدأت … السيناريو يعيد نفسه لا شيء إلا أنا ، كل شيء كما سبق ، لا تغيير ، لا جديد غير أنني أسير في الإتجاه الأخر من الطريق ورائحة اللحم المشوي التي تملأ كل جزء من أجزاء الهواء المحصور داخل السيارة ، بعد عدة ساعات ومع اقتراب إنتصاف النهار واشتداد الحرارة بدأت أشعر بالجوع بشكل عجيب لم أشهده من قبل ، قررت الوقوف لألتهم تلك المشويات التي داعبتني رائحتها طوال الطريق وسال لعابي لها ، وقفت على الفور في منطقة شعرت وكأنها قد جُهزت لي ، منطقة تناسب ذوقي ونفسيتي ، صحراء شاسعة وغرفة مهجورة في وسط ذلك الفضاء الفسيح وتلك الصحراء المترامية الأطراف ، غرفة بها قليل من الظل ظننت أنه كان كافياً لحمايتي من أشعة الشمس العمودية … يا للروعة ويالجمال المنظر … أوقفت سيارتي وهممت بالنزول ، لكنني لم أنزل ، نظرت إلى المكان وقالت لي نفسي : تحرك من هذا المكان على الفور ، دار بيني وبين نفسي لحظتها هذا الحوار :

أنا : لماذا يا نفسي تريدين مني أن أتحرك ؟
نفسي : تحرك فقط ولا تسأل فأنت لا تعرف ماذا سيحدث .
أنا : ولكنني جائع جداً فقط أريد الأكل ثم سأتحرك .
نفسي : تحرك ودعك من ذلك ، تستطيع الصبر قليلاً ، تعلم أن تسيطر على نفسك ولو قليلاً .
أنا : ولكنني جائع فعلاً بل وأتضور جوعاً .
نفسي : أصمت .
أنا : حسناً سأصمت ولكنني سأتناول أي شيء أمامي لأنني جائع جداً .
نفسي : إفعل ما تريد لأنك لا تعلم ، بالتأكيد أنت لا تعلم ماذا قد قدر لك وكيف أن الله يناديك دون أن تدري وكم أنتم عن نداء ربكم غافلون ، ولبعض الحقائق الواضحة أمامكم لا تدركون .
أنا : قلت لأناتي دعك من نفسك وكل قطعة من تلك الشوكولاتة التي لا تحبها لكي تعاند بها نفسك ، نعم لا أحب الشوكولاتة ولكنني أكلتها فقط لأنها كانت في السيارة ، هي لا تخصني ولست أنا من إشتراها ، أكلتها لأنتقم من نفسي التي تحاول منعي من الأكل ، استمتعت بتلك الشوكولاتة وأي استمتاع فقد كنت جائعاً حقاً .

عدت للقيادة ومشيت ومشيت لأكثر من مائتين كيلو ويزيد ، فقدت الأمل أن أكل من ذلك الكباب واللحم المشوي الذي سال له لعابي مراراً وتكراراً وفقدت بسببه أعصابي ، فجأة وجدت محطة بنزين تحت الإنشاء لا تشجع على الوقوف بها أو حتى بقربها ، فقط أعمدة وسقوف اسمنتية ليس إلا ، مع ذلك توجهت من فوري إلى داخلها وكأنني مسير ولست مخير ، وقفت وأخرجت متاعي وأنا غير راض عن المكان ، فلم يكن نظيفاً وكان مليء بالطوب والحجارة ومواد البناء من حديد واسمنت وقطع من الخشب المليئة بالمسامير ، عدت للحوار مع نفسي :
أنا : يالك من غبية يانفسي تركتي غرفة جميلة في وسط الصحراء وتأتين إلى هنا !
نفسي : ليس كل ما تريده خير وليس كل جميل جميل … الجمال ما يقدره الله لك ليس ما تراه أنت .
أنا : أنا لا أفهمك والا أعرف قصدك ولكن المكان هنا سيء للغاية .

نفسي : نحن من نرى الأشياء ، نستطيع أن نراها جميلة إن أحببنا وسيئة إن أردنا ، قد تكون وسط النار وتراه جنة أنتم لا تعون ذلك ولا يدركه معظمكم .
أنا : هلا صمتي وتركتيني لأستمتع بذلك الطعام الذي مضى عليه أكثر من 24 ساعة ولم أتذوقه ولم أقترب منه ؟
نفسي : يالك من فاشل أيها الأنت ، لا يهمك سوى ملذاتك واشباع رغباتك ، ولا تعلم أن كل شيء بقدر .
أنا : أعلم ذلك بالتأكيد ولكن تلك طبيعة البشر إلا القلة منهم .
نفسي : تَفَكْر في كل شيء . لا تأخذ الأمور بسطحية .
أنا : أصمتي ودعيني أجهز غدائي وأستمتع به ، أما التفكر فلاحقاً له وقته وآوانه.
أنا : خذي قسطاً من الراحة يانفسي وأصمتي وإبتعدي عنا قليلاً وأتركيني .

وبينما أنا أجهز المكان ليستقبل حضرتي وجدت شخص قادم من بعيد يجر نفسه جراً ، يتقدم نحوي ويتقهقر وكأنه مكبل بالقيود ، رفعت يدي وألقيت عليه السلام فرد من فوره ، فقلت له : تعال إلى هنا لكي أصافحك أيها الإنسان القادم من المجهول ، حضر وهو يترقب ويتلفت وكأنه خائف من شيء ما ، قلت له : اجلس معي فجلس ، أخرجت زجاجة مشروب بارد وأعطيتها له وسألته ، من أنت ؟ ومن أي البلاد ؟ فأفصح لي عن اسمه وأنه من بنغلاديش أو بلاد البنغال كما يقال ، رحبت به وقلت له : ماذا تفعل هنا ؟ قال لي أنا حارس هذا المكان الموحش ، أعيش هنا دون كهرباء أو وسائل ترفيه في وسط الصحراء ، ليس حولي من شيء أذهب إليه او أشتري منه ما أشتهيهه … قلت له فلتبقى معي ولنتشارك الطعام ، كل ذلك يحصل وأنا لا أعلم تقدير ربي لي ولماذا أتى بي إلى هنا ، جهزت سفرة الطعام وبدأنا في الأكل ، لم يقترب الرجل من الطعام خجلاً وحياء ، ذلك الخجل هو ما كان يكبله ، أكتفى الرجل ببضع لقيمات من الخبز ، فقدمت له قطعة من الشواء فأكلها على الفور وأخذ يلوك بها في فمه وكأنه طفل صغير سعيد بلوح من الشوكولا ، يداعب تلك القطعة في فمه لتستمتع بها كل حواس التذوق لديه ، كنت أراقبه وهو يأكل ، علمت أن ربي قد نادني لأذهب إليه ، دمعت عيناي لحظتها وشعرت بتلك النشوة الغريبة ، كنت أقدم له قطع اللحم المشوي وهو يأكل ويتحدث معي عن الله ونعمه علينا وكيف أن الله يرزق كل شيء حتى الحيوانات التي تعيش في الصحراء حيث لا زرع ولا ماء ، صعقت من حديثه ومن رضاه على ما قسمه الله له ، نحن لدينا كل شيء ونشتكي ونتذمر ونتأفف ونعترض ونتألم ، وهو يترك أولاده وزوجته ووالدته التى بلغت من العمر عتياً ويعيش في وسط الصحراء وحيداً بلا كهرباء ، يكتفي بما يحضره إليه المسئول عنه من طعام في كل أسبوع مرة ، كانت نفسي تستمع إلى الحوار الذي يدور بيني وبين ذلك الإنسان البعيد عني القريب مني ، نفسي تستمع وتنظر إلى ولسان حالها يقول : أرأيت يا أنت . ألم أخبرك ؟ هل علمت حكمة الله فيما حدث ويحدث ؟

كنا نأكل ونتحدث ، وهنا كانت الضربة القاضية التي عرفت فيها أن الله قد ناداني فعلاً ، قال لي الرجل : أنا هنا منذ سنتين ولم أرى الكباب طوال هذه المدة وكنت أشتهيه ويقف عندي مسافرون كثر لا أذهب إليهم ولا أقترب منهم ولكنني أتيت إليك دون أن أعلم سبباً ، عادت بي الذاكرة إلى الوراء ، كنت مدعواً على الغداء وكان الأكل أمامي ، أصناف من المشويات كتلك التي معي وأفضل ولم أأكل منها تقديراً من الرحمن لأنني لو أكلت منها لما اشتهيتها ليلاً ولم تكن لتأتي إلى بالي ، اشتهيتها ليلاً وأشتريتها وأنا على يقين أنني لن آكل منها ليلاً لقناعتي أنا الأكل الثقيل بالليل مضر بالصحة لأنني لو أكلتها لكانت القصة قد وقفت ، اشتريتها وأبقيتها للطريق لأنها قد كتبت لهذا الرجل تحديداً وفي هذا المكان ، لماذا لم أتوقف في المكان الذي أعجبني ووقفت في مكان لم يعجبني ؟ لقد ناداني ربي من أجل هذا الرجل ، نعم شعرت أنه ناداني ، يالك من رحيم يا الله ، سبحانك يا مدبر الأمور ، سبحانك يامن جعلت منا خدماً لعبيدك ، سبحانك وسبحان حكمتك ، أقول هذا الكلام ونفسي تنظر إلي وعيني تدمع وقلبي من هول القصة يخشع .

بعد إن أنتهينا من الأكل وشربنا الشاي الأخضر لكي نخفف من وطأة ما أكلناه ، قمت إلى السيارة وأخرجت كل مافيها من مأكل ومشرب وقدمته للرجل نتيجة كرمه معي وضيافته لي ، نعم لقد أكرمني ولم أكرمه ، نعم هو صاحب الفضل علي بعد الله سبحانه وتعالى وليس لي فضل ولا منة في أي مما قدمت ، لقد أكرمني بأن أحضرني إليه ، قلت لنفسي لعله ناجى ربه فأجاب الله دعائه ، لعله رضي بوالديه فأستحق أن يكافئه الله لو باليسر ، لعله تذكر الله في وحدته فأكرمه الله بكرمه ، لقد ناداني ربي وكم نادنا الله ، كم نادانا وكم خاف علينا كما جاء في الصحيحين في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لله أرحم بعباده من هذه بولدها ” ينادينا وكم منا غافلون ، يسيرنا ويوجهنا لنقوم بأشياء لا نريد القيام بها ونتأفف ولا نفكر في ما وراء ذلك من حكم ووفوائد ورحمة ، تفكر أيها الإنسان بكل موقف يمر عليك في حياتك ، صدقني ستشعر بالله في داخلك وفي كل شيء حولك ، فقط تأمل وأنظر إلى رحمة ربك … لا تحسب أن الشر شراً دوما ً ، وتذكر أن ليس كل خير خير ، فربما كان الشر خيراً والخير شراً ، عندما تقول لك نفسك أصبر فإصبر فقد تكون رسالة لك ، عندما تجد أن نفسك تقاومك فتقبل ذلك لعل في ذلك كل الخير ، أكملت طريقي وأنا أردد بيني وبين نفسي عبارة : من أحبه الله سخر له كل شيء حتى لو كان ذلك الشيء موته كحال أخوتنا المستضعفين في كل مكان وكل زمان وكل حين ، كل شيء مسخر ومسير وورائه حكمة لا يعلمها إلا هو ، حادث يقع فيختار أناس بعينهم وأشخاص ينجون من موت محقق والكثير الكثير من تلك العبر التي غفلنا عنها وفيها لم نتأمل ونتحقق ، أحببت أن أشارككم تلك القصة التي حصلت معي لعلي أتفكر بها وتتفكرون ، وبغيركم تشعرون وتستشعرون ، ولنذكر أنفسنا دائماً وأبداً أننا بشر وأننا متشابهون ،.فلنرأف بحالنا وبالآخرين لعل الله يغفر لنا ذنوبنا ويرحمنا في الدنيا ويوم الدين

No Comments

Post A Comment

Loading...